لاشك أن التطور المتسارع الذي عرفته التجارة الدولية منذ القرن الماضي قد أظهر معه قصور الأنظمة ذات المصادر الوطنية على مواكبة هذا التطور، الأمر الذي أدى إلى ظهور على أرض الواقع مجتمع للتجار الدولي، هذا المجتمع الذي يبحث عن قوانين خاصة لتحكم العلاقات الناشئة بينهم، بحيث أن هذا القصور قد خلف شبه فراغ قانوني يحكم مجال التجارة الدولية Un sous-équipement juridique على حد تعبيرJean Rivero .
فالقوانين الوطنية تتميز بانطوائها على اعتبارات داخلية لا تعطي حلولا مقبولة لمعاملات التجارة الدولية، الشيء الذي قد يعيق هذا النوع من المعاملات .
فعادات وأعراف التجارة الدولية أصبحت تملك القدرة على التنظيم المباشر للرابطة العقدية ووضعها الطبيعي أمام القضاء الوطني وقضاء التحكيم، وبالتالي لا يمكن إغفال الدور الهام والجوهري الذي تؤديه هذه العادات في عدة مراحل سواء في مرحلة إبرام عقود التجارة الدولية أو التفاوض في شأنها أو فيما يتعلق بتنفيذ هذه العقود، وكذا فيما تقدمه من حلول في فض المنازعات الناشئة عنها.
ومن المعلوم أن منازعات التجارة الدولية ليس حكرا على قضاء التحكيم وحده بالرغم من اعتباره قضاء أصيل للتجارة الدولية، حيث أن القضاء الوطني يستحوذ على نصيب مهم لفض مثل هذه المنازعات.
وأمام هذا التطور الذي تعرفه التجارة الدولية من جهة وازدياد حجم المنازعات المرتبطة بها أمام كل من القضاء الوطني وقضاء التحكيم، كان لابد بأن نبحث في كيفية تعامل كل من القضائيين مع تلك القواعد العبر الدولية، والتي أصبح تطبيقها يشكل أولوية بالنسبة للمتنازعين سواء أشاروا إليها بشكل صريح في اتفاقهم كقواعد قانونية واجبة التطبيق على موضوع النزاع، أو لم يشيروا إليها بالمرة، فهل مركز عادات وأعراف التجارة الدولية نفسه بين لكل من القاضي الوطني والمحكم الدولي؟ أي أن هناك اختلاف من حيث الاعتراف بقيمتها القانونية؟
المحور الأول : مركز عادات وأعراف التجارة الدولية أمام القاضي الوطني
إن دور القاضي الوطني في إغناء قواعد قانون التجارة الدولية عموما، وعادات وأعراف التجارة الدولية خصوصا يتزكى يوما بعد يوم، وهو أمر ناتج عن ما يسجله الواقع القانوني من أزمة تعرف بأزمة تنازع القوانين والتي أضحت معها القوانين الدولية الخاصة لجميع الدول محط جدل لعجزها عن ملاحقة المستجدات القانونية للنشاط التجاري الدولي، الأمر الذي عملت معه الأجهزة القانونية الوطنية سواء منها التشريعية أو القضائية على المساهمة بدورها في إيجاد حلول قانونية للأوضاع الناجمة عن معاملات دولية في إطار توجه كل دولة نحو فتح حدودها للمستثمرين الأجانب قصد الاستفادة بأكبر قدر ممكن من التطور الاقتصادي والقانوني الدولي.
مما جعل أغلب النظم القانونية واعية بالأهمية التي تحظى بها قواعد وعادات التجارة الدولية، بحيث عرف تطبيقها انتشارا واسعا أمام محاكم الدولة ، ولا يخفى أن القضاء قد استهدف في كثير من أحكامه مراعاة أعراف التجارة الدولية، لكن يبقى أمر تأقلم القاضي الوطني وتكيفه معها من الأمور الصعبة نظرا لتكوينه القانوني، ذلك أن قواعد التجارة الدولية تعرف بعض التحول، بحيث أن قواعدها أضحت مكونة من قسمين:
قواعد قانونية ذات مصادر وطنية، وقواعد من نوع آخر لم تصدر عن المشرع الوطني، بل هي قواعد غير مندمجة ذات مصادر عبر دولية تجد سندها في النظام القانوني الوطني بحكم الإقبال المتزايد على تطبيقها وتشبت مجتمع التجار ورجال الأعمال بها والتي قد تتخذ تطبيقها صورتين: إما في صورة مباشرة لهذه العادات (أولا) وإما إعمالها بصورة غير مباشرة( ثانيا).
أولا: آليات التطبيق الغير المباشر
لاشك أن الطابع غير المنتمي لقواعد قانون التجارة الدولية عموما، والعادات وأعراف التجارة الدولية خصوصا السبب الأساسي لكافة المشكلات المصاحبة لتطبيقها أمام القضاء الوطني، حيث يصطدم هذا الطابع بثوابت نظام التنازع المزدوج من القوانين الصادرة عن دول كاملة السيادة .
لهذا اعتبر بعض الفقه أن قبول القضاء الوطني لأحكام التحكيم الأجنبية الصادرة طبقا لهذه القواعد خروجا على هذا الثابت واعترافا غير مباشر بالعقد بدون قانون.
إذن فالقاضي الوطني أثناء نظره في منازعة تتعلق بالتجارة الدولية فإنه يستعين في ذلك بقاعدة الإسناد الوطنية التي أصدرها مشرعه الوطني للوصول إلى القانون الواجب التطبيق، قد تكون عادات وأعراف التجارة الدولية أحد القوانين الأجنبية التي اهتدت إليها قاعدة الإسناد اعتبارا لضابط الإسناد المتمثل في إرادة الأطراف لاختيار هذه القواعد.
وفي هذه الحالة، فإن القاضي الوطني ملزم بتطبيق عادات التجارة الدولية. والتي يمكن أن تتخذ صور متعددة انطلاقا من الاختيار الصريح لأطراف العقد، كما يمكن إعمالها ولو في غياب هذا الاختيار عن طريق الاتفاقيات الدولية .
(أ): إرادة الأطراف
إن القاضي الوطني قد يكون ملزم بتطبيق عادات وأعراف التجارة الدولية في حالة إذا ما اختار أطراف العقد ذلك، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر سنة 1980 ، حيث لم تقبل المحكمة تطبيق عادات التجارة المتعلقة بعقد بيع مصنع مادام الأطراف لم يشيروا إليها صراحة، فالمحكمة قد تعاملت مع هذه القواعد مثل الشروط التعاقدية التي يكون عبء إثباتها ملقى على من تشبث بها ومثلها في ذلك، مثل القوانين الأجنبية يجب معاملتها معاملة واقع، زد على ذلك أن التعامل مع هذه القواعد بهذه الطريقة قد يجعل منها مجرد عادات اتفاقية لا يتم تطبيقها من قبل القاضي إلا إذا اتفق الأطراف على إعمالها.
كما أن إعمال القانون الواجب التطبيق طبقا لقاعدة الإسناد يكون معه للعرف والعادة مجرد دور تكميلي شرط عدم مخالفة أحكامها لقواعد النظام العام لدولة القاضي، بخلاف البعض الذي اعتبر أن تطبيق عادات وأعراف التجارة الدولية استنادا إلى قاعدة الإسناد عملية لا يمكن تصورها مطلقا .
فالأصل أمام القاضي الوطني أنه يستعين بقواعد الإسناد من اجل البحث عن القانون الواجب التطبيق لفض النزاع المعروض أمامه أما بالنسبة لعادات وأعراف التجارة الدولية باعتبارها قواعد غير منتمية لأي دولة أو نظام قانوني معين، فهي قواعد عبر وطنية، وبالتالي لا يمكن تطبيقها بصفة تنازعية انطلاقا من قاعدة الإسناد، إذ أن القاضي الوطني أو القوانين الوطنية لا تتصور وجود تزاحم بينها وبين القوانين عبر الوطنية فرغم الاعتراف بوجود قواعد قانونية فوق وطنية ووجود مجتمع دولي للتجار ووجود قانون خاص به ناتج عن تنظيم ذاتي، رغم ذلك لم يكن من المتصور وجود تزاحم بينها وبين قانون وطني من اجل تطبيقها باعتبارها القانون الواجب التطبيق من خلال قواعد التنازع. بخلاف البعض الذي اعتبر التزاحم مقصور فقط بين قانونين منتميين لدولتين مختلفتين ذات سيادة.
والواقع، أن اتفاقية روما المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية والموقعة في 19 يونيو 1980 وفي مادتها 19 قد خرجت عن هذه القاعدة وجعلت مسألة التنازع قائمة حتى مع قانون وحدة إقليمية لا تتمتع بصفة دولة، فيمكن مثلا أن يقوم التنازع فيما بين شرائع تنتمي كلها إلى نفس الدولة الواحدة وهذا ما جعل من المتصور وجود تزاحم بين قانون وطني وعادات وأعراف التجارة الدولية من أجل التطبيق.
وتجدر الإشارة، أن تحديد القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية بناء على إرادة الطرفين مسألة نظمها المشرع المغربي في ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب وخصوصا الفصل 13 منه .
فبالرجوع لهدا الفصل نجده ينص بكيفية صريحة على إمكانية المتعاقدين تحديد القانون الواجب التطبيق على الرابطة العقدية بإرادتهما، غير أن ما يطرح المشكل في حقيقة الأمر أن هذه الإمكانية مرتبطة بضرورة أن يكون التحديد مطبقا على قانون معين الصادر عن سلطة وطنية وتعني بذلك التشريع.
الشيء الذي يحمل معه كون الفصل 13 لا يحتمل أن يحدد أطراف العلاقة الدولية عادات تجارية، لكون الأمر لا يتعلق بالقانون بمفهومه الضيق ومن تم فإن القاضي الوطني قد يستبعد اختيار العادات التجارية الدولية لحل المنازعات التعاقدية، بعلة أن الاختيار جاء مخالفا لروح قاعدة الإسناد المضمنة في الفصل 13 من ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب.
إن قواعد الإسناد المضمنة في ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب هي قواعد على درجة واحدة من الأهمية والإلزام، غير أن هذا القول ليس مطلقا.
من المعلوم أن القواعد القانونية الجوهرية منها ما لا يجوز مخالفتها ومنها ما يجوز مخالفتها، حسبما تكون الحقوق التي وضعت تلك القواعد لحمايتها مما يجوز التصرف به والتنازل عنه أو مما لا يجوز فيه، فقواعد الإسناد التي تضمنها قانون وضعية الأجانب في المغرب تشمل حقوقا من النوعين .
وانطلاقا من الطبيعة المزدوجة لقواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص المغربي، فإن اختيار الأطراف للعادات التجارية الدولية من أجل أن تحكم علاقاتهم التعاقدية هو اختيار صحيح على أساس أن يتم التعامل مع تلك العادات تعامل القانون الأجنبي، خصوصا من حيث إثبات تواجدها والذي يملك القاضي استبعاده كل ما كانت هنالك مخالفة للنظام العام.
والحقيقة، أن قولنا بضرورة أن يتم التعامل مع تلك العادات التجارية بنفس التعامل مع القانون الأجنبي، إنما يهدف إلى تأكيد صحة الاتجاه الحديث الذي يذهب إلى الاعتراف بالصفة القانونية للعادات التجارية، بالإضافة إلى تجنب صعوبة تطبيق تلك العادات الدولية على العملية التعاقدية برمتها انطلاقا من تكوين العقد إلى حين تنفيذه.
ومما يزكي وجه نظر هذه هو أن النظام القانوني المغربي يعترف للعادات التجارية بمكانة مهمة في حل المنازعات القائمة بين التجار، وذلك أمام صراحة المادة 2 من مدونة التجارة
وكذلك قانون المسطرة المدنية، في بابه الثامن المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، في فصله 44/327 والذي ينص على أخذ الهيئة التحكيمية في الاعتبار وأعراف التجارة .
وانطلاقا من القاعدة الفقهية القائلة بكون النصوص القانونية يكمل بعضها البعض الآخر، فإنه ليس هناك ما يمنع أطراف العلاقة التجارية الدولية من اختيار العادات التجارية بحكم علاقتهم التعاقدية.
(ب): الاتفاقيــات الدوليــة
هذه الصورة تتم عن طريق إعمال اتفاقية دولية من طرف القاضي الوطني، والتي تحيل إلى تطبيق عادات التجارة الدولية، وهذا ما نجده في اتفاقية الأمم المتحدة للبيع الدولي للبضائع في المادة 8 و9 والتي تلزم الأطراف والقاضي الوطني بتطبيقها .
إضافة إلى ذلك، فإن القاضي الوطني قد اعترف بها عندما سمح بتنفيذ أحكام المحكمين التي طبقت على المنازعات العقدية، فكأن القضاء الوطني قد منح للعقد الطليق في هذا الفرض قوته الملزمة التي ما كان يتمتع بها لو كان النزاع قد تعرض على القضاء منذ البداية، بل إن القضاء قد أكد في مناسبة الطعون التي طرحت عليه بشأن أحكام المحكمين لها على إرادة الأطراف، وبالتالي لا يجوز لهؤلاء الآخرين الاحتجاج بجهلهم لها، لأنه لا يعذر بجهل القانون، وهذا ما حدث بالنسبة لمحكمة النقض الفرنسية 1950، حين اعتبرت وتصورت عدم خضوع عقدها على أعراف التجارة الدولية وأن كل عقد لابد من إخضاعه لقانون دولة معينة، لكنها تراجعت عن قرارها 1981 واعتبرت أن التحكيم الذي طبقت القانون التجاري الدولي يعد تحكيما قانونيا وبالتالي اعتمد على قواعد قانونية، الأمر الذي توضح في قرار آخر لنفس المحكمة بتاريخ 22 أكتوبر 1991 والذي رفضت من خلاله المحكمة الطعن الذي تقدمت به شركة Valenciane ضد الحكم الصادر عن محكمة استئناف باريس 13 يوليوز 1989، أصدرت من خلالها محكمة النقض صحة العقد موضوع النزاع والذي لا يرتبط بروابط مميزة مع أي من القوانين الوطنية .
في هذا الإطار فإن القضاء الفرنسي، قد اعترف ببعض العادات السائدة في مجال التعاقدات الدولية، حيث نجد مثلا، الاعتراف بصحة شرط الدفع بالذهب، نقض فرنسي سنة 1950 والاعتراف بصحة شرط التحكيم في العقود التي تبرمها الدولة مع الأشخاص الخاصة الأجنبية نقض فرنسي سنة 1966 في قضية Galakiss وكذلك مبدأ استقلالية شرط التحكيم نقض فرنسي سنة 1963 بمناسبة قضية Gosset بالرغم من اعتراف القضاء بالقيمة القانونية لعادات التجارة الدولية وإنكاره صفة الإلزام، و مع ذلك فهي تشكل مصدر أساسيا للقانون بمفهومه الواسع وجب تطبيقها ولو في حالة عدم وجود إشارة إرادة الأطراف إليها.
إذن فتطبيق عادات وأعراف التجارة الدولية عن طريق آليات وبشكل غير مباشر من طرف القضاء ومن خلال اعترافها بقيمة قانونية قد فسح المجال أمام المحاكم الوطنية لتطبقها مباشرة.
ثانيا: التطبيق المباشر لعادات وأعراف التجارة
لعل التطورات التي عرفتها التجارة الدولية عموما وقواعدها خصوصا في عادات وأعراف التجارة الدولية واعتراف القضاء بقيمتها لم يعد تطبيقها متوقف على إرادة الأطراف ، حيث أصبح بإمكان القاضي الوطني تطبيقها دون الاستعانة بقاعدة الإسناد أو أي وسيلة أخرى، مما يتحتم العلم بها فهي بمثابة قانون غير مكتوب يفترض في القاضي العلم بها كعلمه بسائر القوانين، وبالتالي لا يجوز الاحتجاج بجهلهم لها لأنه لا يعذر بجهل القانون .
وهذا الموقف في تطبيق الأعراف قد اعتمدته المحكمة العليا اللبنانية في القواعد المتعلقة بالاعتمادات المستندية وفي ذلك تقول محكمة التمييز اللبنانية في حكم لها في 4 أبريل 1968 «أن العقد الناشئ عن فتح اعتماد مصرفي مستندي هو عقد مبني على أعراف التجارة الدولية التي ترعى كيفية إنشائه وآثاره. وفي حكم آخر صادر عن محكمة استئناف باريس في حكم لها صادر بـ 10 فبراير 1981 حيث جاء في حيثيات الحكم :
« Un exploitant d’un commerce de primeurs en gros, est un professionnel tenu de connaître les règles et usages de son commerces. Et plus particulièrement les règles et usages du commerce inter-européen de pomme de terre. »
وهذا يعني أن المتعاملين في مجال تجارة البواكر يجب أن يكونوا بطبيعة الحال على علم بقواعد وعادات تجارتهم وخصوصا عادات التجارة الأوربية لتجارة البطاطس ثم أضاف القاضي قائل:
« Cette obligation constitue le simple transposition du principe de droit commun selon lequel nul n’est censé d’ignorer la loi ».
أي أن هذا الالتزام الملقى على عاتق الأطراف يشكل تجسيدا للمبدأ القانوني المعروف الذي بمقتضاه لا يعذر أحد بجهله للقانون.
المهم في هذا التطبيق، أن المحكمة من تلقاء نفسها قد طبقت العادات التجارية المستقرة في هذا الصدد ولم تبحث عن القانون الوطني الواجب التطبيق تبعا لقاعدة الإسناد الفرنسي.
والجدير بالذكر، أن التطبيق المباشر لعادات وأعراف التجارة الدولية أمام القضاء الوطني لا يعني بالضرورة استبعاد إسناد العقد إلى قانون أجنبي، فلا يتعارض هذا التطبيق مع التزام القاضي الوطني بإعمال قواعد الإسناد في قانونه وتطبيق القانون الأجنبي الذي تشير إليه، فإعمال القواعد الآمرة في القانون الأجنبي الواجب التطبيق يحقق معنى أو جوهر هذا الالتزام، فالمرونة التي تتسم بها عادات التجارة والناشئة عن طبيعتها العرفية المحايدة، وتمكن القاضي من تطبيقها في كل الأحوال دون توقف على إحالة من جانب الأطراف خلال البحث عن القانون الواجب التطبيق.
وتجدر الإشارة على أن بعض المحاكم الفرنسية في بعض أحكامها، اعتمدت على الشروط التعاقدية الواردة في العقد وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين للوصول إلى تطبيق قواعد التجارة الدولية المستقرة وخاصة عادات التجارة الدولية .
إذن فالقاضي قد يعتمد على قواعد وعادات التجارة الدولية بشكل مباشر متجاهلا بذلك تطبيق ضابط الإسناد التي تحيل إلى تطبيق القانون وطني لدولة ما خصوصا وأن عادات التجارة الدولية هي قواعد غير منتمية لنظام قانوني معين، مما يعني عدم وجود التطبيق التنازعي بين القانون الوطني وقواعد وعادات التجارة الدولية، وبالتالي فهذا يعتبر مناهضا لالتزام القاضي بإعمال قواعد الإسناد الوطنية والتي أمره مشرعه لضرورة إعمالها على كل نزاع يحتوي على عنصر أجنبي، وهو ما لا يجوز قانونا.
لكن خصوصية التجارة الدولية وخصوصية العقد الدولي يفرض في هذا المجال تطبيق مباشر لقواعد التجارة الدولية ينطلق دائما من معطيات منهج الإسناد التقليدي الذي لا يعرف سوى قواعد التنازع المزدوجة عندما يتزاحم قانونين أو أكثر من أجل التطبيق، ومن ثم فإن تطبيق عادات التجارة بشكل مباشر يمكن إدراكه في ظل النظرية الأحادية للإسناد .
هذه الأخيرة التي تحدد القواعد الواجبة التطبيق على ضوء ما يسفر عنه معيار الصلة الذاتية الذي يدقق من خلالها في العلاقة القائمة بين الحالة المعروضة أمام القضاء والقواعد القانونية التي يكشف عن إرادتها في الانطباق، وذلك دون اعتبار لانتماء هذه القواعد إلى نظام قانوني كامل في دولة كاملة السيادة أم لا، ولعل في فكرة الإسناد الأحادي إلى قانون معين دون اعتبار إلى قاعدة الإسناد المزدوجة في طبيعتها أن تغلق الباب على كل المزاعم التي تنعى على القاضي تعيينه للقانون الواجب التطبيق وليس عادات التجارة فقط.
الأمر الذي يؤدي إلى فقدان هذا النوع صفته المتميزة لحكم علاقة قانونية محددة تطبق على النزاع بشكل مباشر دون اللجوء إلى المنهج التنازعي الذي يسعى مختلف المتعاملين في التجارة الدولية إلى الهروب منه، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بهم إلى اختيار التحكيم التجاري الدولي الذي يجدون فيه قضاء أصيل لتجارتهم الدولية، فما هو مركز عادات وأعراف التجارة الدولية أمام المحكم؟
المحورالثاني : تطبيق العادات والأعراف أمام المحكم
توجب غالبية القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية على هيئة التحكيم الأخذ بالاعتبار ومراعاة عند الفصل في النزاع شروط العقد والأعراف السائدة في نوع المعاملة .
يلجأ المحكم الدولي إلى هذا الالتزام، حيث يأخذ صورا عديدة ومتنوعة، فمن ناحية يلجأ إلى هذه العادات والأعراف لسد النقص أو لمعالجة أوجه القصور التي يتضح فيها أن إرادة الأطراف قد اتجهت إلى العقد للقانون.
في هذا الإطار تتسع سلطات المحكمين الدوليين اتجاه القواعد والأعراف التجارية الدولية بالمقارنة مع القاضي الوطني، فتطبيق المحكم الدولي لعادات وأعراف التجارية الدولية على موضوع النزاع يعني ذلك أن يكون البنيان القانوني لقرار التحكيم منبث الصلة بأي من القوانين الوطنية، بمعنى آخر إن هذه العادات والأعراف ستكون بمثابة قانون القاضي Lex fori بالنسبة للمحكم الدولي لعدم توفره على قانون اختصاص وإلى وجود اعتبارات أخرى (أولا)، كما أن هناك حدود وضوابط تحدده وتقيده في أعمال هذه القواعد والعادات التجارية الدولية (ثانيا).
أولا : أساس تطبيق المحكم الدولي للعادات والأعراف.
تتسع سلطات المحكم اتجاه القواعد والأعراف المهنية أو التجارية بصفة عامة والأعراف التجارية الدولية بصفة خاصة، حتى ولو كانوا ملزمين بالفصل بالنزاع طبقا للقانون ، وذلك راجع بالأساس لعدم توفر المحكم لقانون اختصاص( أ) وإلى عدم تحديد الأطراف القانون الواجب التطبيق على عقدهم( ب) إضافة إلى وجود اعتبارات أخرى( ج).
(أ) : عدم توفر المحكم الدولي على قانون اختصاص.
يتمتع المحكم الدولي بسلطة تقديرية واسعة في بحثه عن القانون الذي يحكم موضوع النزاع على خلاف القاضي الوطني، وذلك راجع بالأساس لعدم توفره على قانون اختصاص يمكنه اللجوء إليه وقد أكدت هذه الحقيقة العديد من الاتفاقيات الدولية والكثير من قرارات التحكيم التجاري الدولي.
فمن الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم، والتي أكدت تمتع المحكم بقدر من الحرية والسلطة التقديرية في تحديد القانون الواجب التطبيق، نجد الاتفاقية الأوربية بشأن التحكيم التجاري الدولي الموقعة بجنيف في 21 أبريل 1961 والتي نصت في مادتها السابعة على وجوب تطبيق المحكمين للقانون الذي تحدده قاعدة التنازع التي يرونها ملائمة في حالة المعروضة، وهو الأمر الذي أقرته أيضا المادة الثالثة من اتفاقية أنترأمريكان الموقعة في بنما سنة 1975 والمعروفة باسم convention Cas.، نفس التوجه أقرته لائحة قواعد التحكيم الخاصة الصادرة عن الأمم المتحدة في 15 دجنبر 1976.
فعدم وجود قانون اختصاص للمحكم يعطي له الحرية الكاملة في تبني أية قاعدة قانونية سواء كانت دات مصدر وطني أم ذات مصدر دولي .
(ب) : عدم اختيار الأطراف القانون الواجب التطبيق
لا شك أن لإرادة الأطراف دور حاسم ومركزي في نطاق العقود التجارية الدولية وتسوية المنازعات المرتبطة بها عن طريق التحكيم كآلية لفضها، لما يوفره هذا النوع من القضاء الخاص من مميزات لا يوفرها قضاء الدولة كالسرية والسرعة وتمكين الأطراف من حرية اختيار القانون الموضوعي الذي سيفصل في هذه المنازعات ، لكن في حالة غياب إرادة الأطراف سواء الصريحة أو الضمنية في تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع عن طريق إعمال قواعد التنازع في القانون الدولي الخاص- قواعد الإسناد.
ومن المعلوم وكما سبقت الإشارة، أن المحكم الدولي يختلف عن القاضي الوطني، ذلك أن هذا الأخير مقيد بإتباع القواعد القانونية لقانون اختصاصاته أي لقانون دولته التي يصدر باسمها أحكامه بإتباع قواعد الإسناد التي يمكن للمحكم أن يستشف هذا التمركز بطريقة سلبية وهي عدم إمكان ربط العلاقات محل النزاع بقانون وطني معين، أو حسب تعبيرين الفقيهين الكبيريين: P.lagarde et H.batiffol.
هناك من العلاقات والمعاملات التجارية الدولية ما لا يمكن إخضاعه من الناحية الواقعية لقانون وطني معين نظرا لاتساع وتشعب هذه العلاقات، فإنها تتجاوز نطاق قانون وطني معين، وخير مثال على ذلك العمليات التجارية التي تتم بين شركات تعمل في نطاق دول متعددة، ففي هذه الحالة سيكون من التعسف ربطها بقانون دولة معينة، أو سوف يجد المحكمون في القواعد العرفية مخرجا لهم لحل المنازعات التي تنشأ عند تنفيذ هذه العمليات، خاصة إذا تمسك كل طرف بتطبيق قانونه الوطني ولم يتمكن المحكمون بسبب عدم وضوح بنود اتفاق التحكيم أو العقد موضوع النزاع من الكشف عن الإرادة الضمنية للخصوم.
ويمكن أن نسوغ مثال فيما يخض قرار تحكيمي في هذا الصدد، ويتعلق بتنفيذ عقد توريد منتجات يابانية يبين شركة تصدير يابانية وشركة استيراد لبنانية، لم يحدد فيه الطرفان القانون الواجب التطبيق على النزاع، ولم يتفقا على تحديده أثناء سير النزاع، بل طالب كل منهما بتطبيق قانونه الوطني ولتبرير الاستناد إلى قواعد وأعراف التجارة الدولية لحكم هذا النزاع، ذكر المحكمون في حكمهم “أنه يتضح من ظروف النزاع أن عقد توريد المنتجات اليابانية سوف يتم تنفيذه في كل من لبنان وسوريا والأردن… وأن الطرف اللبناني المستورد ينبغي عليه احترام القواعد المتعلقة بالنظام العام الخاصة باستيراد هذه المنتجات في الدول التي سيتم تنفيذ هذا العقد فيها وأن الطرف المصدر الياباني لا يمكنه الإدعاء بأن هذه القواعد المنظمة لاستيراد لا يحتج بها عليه، لأن كل تاجر ينبغي عليه قبل تصريف منتجاته أن يحترم القواعد المتعلقة بالنظام العام التي تتعلق بالاستيراد في الدول التي يزمع تصريف منتجاته فيها. ومن هنا يتضح أن العقد سيتم تنفيذه في ثلاث بلاد مختلفة واختيار قانون معين لحكم مثل هذا النزاع يعد صعوبة حقيقية، ولذا ينبغي اعتبار أن الخصوم قد ارتضوا أن يتم الفصل في منازعاتهم الناشئة عن مثل هذا العقد طبقا للمبادئ العامة والأعراف السائدة في مجال التجارة الدولية ، إذ يرى جانب من الفقه أن اتفاق الأطراف على إخضاع النزاع الناشئ بينهم للتحكيم طبقا للائحة إحدى منظمات ومراكز التحكيم الدائم يعد مؤشر على رغبة الخصوم في تطبيق أعراف وقواعد التجارة الدولية كنظام قانوني مستقل، وهو ما طبقه المحكمون في حكمهم الصادر في القضية رقم 1569 لسنة 1970 من غرفة التجارة الدولية، حيث كانت مشارطة التحكيم مبرمة بين طرفين أحدهما ألماني والآخر هندي، وكانت تنص في فقرتها الأولى على إتباع لائحة غرفة التجارة الدولية وتمسك كل طرف، رغم ذلك بتطبيق قانونه الوطني، إلا أن المحكمين عند استحالة إعمال أي من القوانين المقترحة قد استنتجوا من اختيار الخصوم للائحة غرفة التجارة الدولية عدم خضوع المنازعة من هذين القانونيين وإنما لعادات وأعراف التجارة الدولية.
من هذا المنطلق، يمكن للمحكم وخاصة على صعيد التجارة الدولية الاستناد مباشرة على عادات هذه التجارة كنظام قانوني مستقل عن أي قانون وطني للفصل في المنازعات التي تثور بمناسبة عقود يحدد الخصوم فيها على وجه اليقين القانون الواجب التطبيق على هذه المنازعات أو حددوا وأكثر من قانون لحكمها ولم يتمكن المحكمون من كشف عن إرادتهم الضمنية من اختيار قانون معين لغموض بنود العقد لتعقد المشكلات التي يثيرها أو لتعدد أطرافها أو أماكن تنفيذها.
(ج): تطبيق المحكم لعادات وأعراف التجارة على سبيل الاحتياط
يمكن للمحكم أو الأطراف أن يطبق عادات وأعراف التجارة الدولية حتى عند اختيارهم قانونا وطنيا معينا لحكم موضوع النزاع، لكن على سبيل الاحتياط فقط سواء لسد النقص في هذا القانون أو لتفسير النصوص الغامضة فيه .
بل قد يعطي المحكم للأعراف الدور الراجح في التطبيق في حالات معينة، ففي حالة عدم وجود نص أو حل للنزاع الواجب التطبيق، لقد أجبر المحكم الدولي في إطار بحثه عن القانون الواجب التطبيق أمام تخلف بعض القوانين الوطنية عن مسايرة التطور الهائل والتقدم المذهل والمستمر لواقع التجارة الدولية حلا لدلك خاصة في ظل وجود فراغ تشريعي حول بعض المسائل التي قد تثور على مسرح هذه التجارة .
ولعل أهم المشاكل التي كانت تثور في هذا الخصوص، الاعتمادات المستندية وبعض أعمال البنوك الأخرى والتي استمرت فترة طويلة شائعة في التعامل بين التجار قبل أن يقبلها القضاء الوطني، وقد استند المحكمون إلى هذه الأعراف لفض النزاع الذي كان محلا للحكم رقم 1675 في سنة 1969 الصادر عن غرفة التجارة الدولية بين بائع برازيلي ومشتري فرنسي بخصوص صفقة أرز وثم في عقد البيع الاتفاق على أن يقوم المشتري بفتح اعتماد مستندي بمجرد توقيع العقد، وفي حالة التأخير يكون من حق البائع طلب مد فترة تسليم البضاعة، ولما تأخر المشتري عن فتح الاعتماد المطلوب قام البائع بفسخ العقد من جانب واحد فحدث الخلاف ورفع الأمر إلى المحكمين للفصل في مدى صحة ما قدم به البائع وغيرها، فأقر المحكمون من المسلك استنادا إلى قواعد وأعراف التجارة الدولية السائدة في هذا المجال.
إضافة إلى هذه المشاكل التي تثور على مسرح التجارة الدولية، مثل المشكلات المتعلقة بمدى كفاية بعض الضمانات التعاقدية في الروابط التجارية الدولية أو المتعلقة بنوع العملة الواجب الدفع بها والأثر المترتب على تخفيضها، والتي كان المحكمون يضطرون للفصل فيها للأعراف طبقا للأعراف السائدة نظر العدم معالجة القوانين الوطنية كليا أو جزئيا لهذه المشاكل، ولذا فإن محكمي التجارة الدولية غالبا ما يحتاطون لهذا الأمر عندما يكون هناك قانون وطني واجب التطبيق على النزاع ويعلنون صراحة أنهم سيطبقون هذا القانون أو ذاك أو الأعراف التجارية إذا اقتضى الأمر ذلك.
والحالة الثالثة تتمثل في تطبيق العادات والأعراف بصورة مباشرة، ذلك أن هناك من العلاقات التجارية ما يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا هذه الأعراف، وهنا يستطيع المحكمون الاستناد إلى هذه الأعراف لحل المنازعات المتولدة عن هذه المعاملات أو لتفسير حقوق التزامات الأطراف فيها دون اهتمام بالحلول الموجودة في القانون الذي يحكم النزاع، ومن أهم المعاملات التجارية الدولية التي ترتبط بالأعراف، البيوع التجارية البحرية والبيوع الخاصة ببعض السلع مثل القطن والجلود والصرف والأخشاب والتي يرجى بشأنها تقنين خاص للأعراف السائدة صدر به عقد دولي دون شكل نموذجي أو اتفاقية خاصة لتنطبق على هذا النوع من البيوع.
إضافة إلى حالة أخرى تطبق هذه الأعراف لا لسد النقص في قانون وطني معين ولا لتفسير الغامض من نصوصها بما يتوافق مع معطيات وضروريات التجارة الدولية، وإنما تنطبق كنتيجة مباشرة لاستبعاد المحكم لأحكام القانون الوطني الواجب التطبيق لمخالفتهما للنظام العام الدوليين فتكون هذه الأعراف في هذه الحالة هي المؤهلة وحدها لحكم موضوع النزاع .
ومن أهم المجالات التي يستبعد فيها المحكمون القوانين الوطنية لمخالفتهما للنظام العام الدولي القوانين المالية التي تسنها الدول للأحكام المتعلقة بشروط الدفع في المعاملات التجارية الدولية، والتي تتعارض أحيانا مع تنفيذ شروط ضمان تحويل العملة التي تتضمنها في الغالب العقود الدولية ذات الشكل النموذجي ، أمام هذه الاعتبارات فإن المحكم يلجأ إلى هذه العادات والأعراف، حيث تصبح ملائمة ومسايرة للتطورات التي تعرفها التجارة الدولية ليفصل في النزاع طبقها، لكن هذه السلطة تكون مقيدة بضوابط تحده في إعماله لها.
ثانيا: ضوابط إعمال المحكم لعادات وأعراف التجارة الدولية
يتمتع المحكم الدولي بحرية واسعة في اختيار القانون الواجب التطبيق ولا يجب أن يفهم أن هذه الحرية مطلقة، بل هناك قيود ترد على هذه السلطة، حيث يستطيع المحكم تطبيق العادات والأعراف دون أن يوجد اتفاق الخصوم (أ( إضافة إلى أن هذه القواعد والأعراف لا تطبق إلا في أوساطها المهنية (ب) ومخالفتها النظام العام (ج).
(أ) : اتفاق الخصوم ليس شرط لتطبيق الأعراف
يستطيع المحكم الدولي تطبيق الأعراف والعادات من تلقاء نفسه، فاتفاق الخصوم ليس شرط في تطبيقه على موضوع النزاع، وبالتالي فإن القضاء الفرنسي لم يبحث فيما إذا كان هذا الشرط قد ورد النص عليه في العقد أو في المشارطة أوفي لائحة أو منظمة أو مركز تحكيم أم لا، إذ أن اختيار الأطراف تطبيق الأعراف بواسطة المحكم يعني ضمنيا أن الخصوم اختار تجنب اللجوء إلى قضاء الدولة وتفضيل التحكيم، وبالتالي تفضيل حل النزاع استنادا إلى القواعد التي اعتادوا إتباعها في الوسط المهني الذي يعملون فيه، لأن المحكمين خاصة إذا ثم اختيارهم من نفس الوسط سيكون مؤهلين أكثر من غيرهم للفصل في المنازعات طبقا لهذه الأعراف نظرا لمعرفتهم بها وشروط تطبيقها.
من جهة ثانية، إن القواعد العرفية بمثابة القانون في مجال التحكيم، خاصة إذا ما تم في وسط مهني معين وهذا ما ذكرته محكمة استئناف باريس عندما قالت: “أن الخصوم بلجوئهم إلى التحكيم يعني أنهم ارتضوا أن يتم الفصل في النزاع الذي بين يديهم طبقا للعادات والأعراف التي تعتبر في مقام القانون الذي يحكم العلاقات في المجال المهني الذي يعملون فيه”.
كما قضت نفس المحكمة في حكم لها بأن: العاملين في مجال مهني معين أو الممارسين لتجارة معنية يفترض فيهم أنهم يعلمون تماما وفق القواعد والأعراف التي تسود في هذا المجال أو بين المتعاملين في هذه التجارة، حيث يمكن معه نقل القاعدة والتي تنص على عدم جواز الاعتذار بجهل القانون، إذ يستطيع المحكم ولو لم يكن مفوضا بالصلح تطبيق هذه الأعراف ، ذلك لأنها ليست لها رابطة مباشرة بالعدالة، فهي تشكل قواعد قانونية حقيقية مثلها مثل نصوص التشريع، لكنه أي المحكم المفوض بالصلح يستطيع استعبادها إذا رأى أن تطبيقها يجافي أو يخالف العدالة .
من ناحية أخرى، إن القواعد العرفية هي مجموعة القواعد الشائعة التطبيق في الأوساط التجارية أو المهنية، ذلك أن التفرقة بين الأعراف والعادات كما سبقت الإشارة أصبحت غير مؤكدة وفقدت كثيرا من أهميتها، إذ أن المصطلح الأكثر استعمالا حسب الفقه أحكام المحكمين وفي النصوص التشريعية، مصطلح العادات Les usages وليست الأعراف، كما تشير بذلك الاتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي في مادتها السابعة وكذلك بالنسبة للمشرع الفرنسي بخلاف المشرع المغربي، فهو يشمل مصطلح العادات والأعراف.
(ب): الأعراف لا تطبق إلا في أوساطها المهنية
إن الأعراف قد لا تطبق إلا في أوساطها المهنية، وهذه مسألة بديهية. وقد ركز القضاء الفرنسي عليها كثيرا، قبل أن يؤيد تطبيق المحكمين للأعراف، ذلك أنها لا تستطيع أن يحتج بها إلا على الممارسين للمهنة أو التجارة التي تنتشر فيها هذه الأعراف لأنهم على دراية تامة، فإذا كان أحد أطراف النزاع من خارج هذا الوسط المهني أو غير ممارسي تلك التجارة فإن القوة الملزمة لهذه الأعراف تتوقف على قبوله لها ولو ضمنيا.
وتطبيقا لذلك، قضت محكمة استئناف باريس قبل أن تستحسن موقف المحكمين في تطبيق قواعد وأعراف تجارة البطاطس عبر أوروبا أن الطرف الفرنسي هو أحد مصدري الغلال والحبوب وهو يوجبها هذا القانون على المحكمين اختيار هذا القانون أو حسب التعبير الذي استخدمه المشرع الفرنسي اختيار القواعد التي يرونها مناسبة م 1496 من قانون المرافعات.
في هذا الإطار يتمتع المحكمون باختيار هذه القواعد بحرية كبيرة، ولكن ليس لحد اختيار قانون لا علاقة له بالخصوم أو النزاع ، وإنما يجب أن يختاروا القانون الذي تتمركز فيه العلاقات بحل النزاع بطريقة أو بأخرى و هذا القانون قد يكون بالضرورة أحد القوانين الوطنية، ففكرة تمركز العلاقات محل النزاع لا يمكن ربطها فقط بقانون وطني لأنه بجوار القوانين الوطنية يوجد Lex mercatoria وبصفة خاصة أعراف التجارة الدولية التي تشكل في ذاتها نظاما قانونيا مستقلا كفيلا لحكم النزاع مثله مثل القوانين إذا رأى أن العلاقات القانونية بين أطراف نزاع معين متركزة-حسب المعيار السائد في هذا الأعراف تاجر جملة ومهني وينبغي عليه أن يعلم قواعد وأعراف المهنة التي يمارسها خصوصا إذا ما كانت مقننة ولا يجوز الاعتذار بجهلها لأنه لا يعذر بجهل القانون.
فالمحكم عليه أن يطبق إلا الأعراف التي وصلت بين الخصوم أو في المجال المهني الذي يعملون فيه و التي تصبح لها القوة الفترة الملزمة لتواتر العمل بها، ذلك أن المحكم المقيد بقواعد القانون لا يستطيع أن يخلق القاعدة العرفية، بل فقط يقوم بتطبيق القواعد الموجودة سلفا، بشرط أن تكون قد وصلت إلى مصاف القواعد القانونية بتواتر العمل بها.
إن أخد صفة الخصوم في الاعتبار والتركيز كونهم من ممارسي مهنة أو تجارة معينة كشرط لتطبيق الأعراف السائدة في المهنة، يزداد أهمية يوم بعد يوم نظرا للتطور الهام في قواعد القانون الخاص في العصر الحالي والاتجاه المتزايد نحو التخصص الذي يتمثل في وضع قواعد خاصة بكل مهنة مما يزيد من الأعراف المهنية.
(ج): عدم مخالفة النظام العام
يمتنع على المحكم تطبيق الأعراف المثارة من طرف الخصوم أو التي يريد تطبيقها من تلقاء نفسه، إذا ما رأى أنها تخالف النظام العام الداخلي أو الدولي، ومع ذلك فإن الأحكام الصادرة من القضاء الفرنسي لم تعط لنا مثالا حريصا في هذا المعنى، ويرجع ذلك إلى ندرة هذا الفرض في الواقع العملي، لأن المجال الخصب للأعراف هو الالتزامات التعاقدية فهي التي تحدد مضمونها وتساهم في تفسير حقوق والتزامات الخصوم خاصة بين أبناء المهنة الواحدة. ولذا فإن احتمال تعارض الأعراف مع النظام العام احتمال ضعيف، ومع ذلك إذا حدث مثل هذا التعارض فإنه يمكن الطعن في الحكم لنص المادة 484/6 من قانون المرافعات الفرنسي بالنسبة للتحكيم الداخلي، أما في مصر فإنه ينبغي على القاضي المختص بإصدار أمر التنفيذ أن يمتنع عن إصداره إذا تبين له أن يخالف النظام العام في مصر إعمالا لنص المادة.
في هذا الإطار، يمكن أن تلعب عادات وأعراف التجارة الدولية دورا بارزا في تكوين النظام العام عبر الدولي وإرساء معالمه، هاته العادات والأعراف ما فتئت تحرم مجموعة من السلوكيات المقلقة في حقل التجارة الدولية وغير المرضية للفاعلين فيها للأطراف الأخرى التي يمكن أن ترتبط مصالحها بالتجارة الدولية من قريب أو بعيد .
فالأعراف والعادات التجارية الدولية تأبى انحراف التاجر عن تنفيذ التزاماته بحسن نية وتتناقض في ضوابطها مع السلوكيات غير المرضية في المجال التجاري الدولي وإن كانت مرضية في باقي المجالات.
فالعرف الدولي وهو أكبر مصادر القانون، بالرغم من تحفظ بعض الفقه كون عادات وأعراف التجارة الدولية مصدرا حقيقيا للنظام العام عبر الدولي، خاصة وأن هذه العادات والأعراف ذاتها محل نقاش بشأن قانونيتها .
إرسال تعليق